تحديات الخيار العسكري المصري في أزمة سد النهضة ومستقبل الصراع

المؤلف: شادي إبراهيم08.12.2025
تحديات الخيار العسكري المصري في أزمة سد النهضة ومستقبل الصراع

إن اللجوء إلى الخيار العسكري، أو اتخاذ قرار الحرب، يمثل جزءًا لا يتجزأ من الإستراتيجية العامة والسياسة التي تتبناها الدولة بهدف تحقيق غايات محددة. فالقيادة الرشيدة تسعى دائمًا إلى استخدام الأدوات المتنوعة، بدءًا من الأدوات الخشنة التي تتجسد في استخدام القوة العسكرية كحل أخير، ووصولًا إلى الأدوات الناعمة التي تتصدرها الدبلوماسية كوسيلة رئيسية للتواصل والتفاوض.

تسعى الدول جاهدة لتحقيق أهدافها المنشودة وحماية مصالحها الحيوية من خلال تبني إستراتيجية تهدف إلى تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر قدر الإمكان. وتعتبر هذه الإستراتيجية بمثابة خارطة طريق لتحقيق التوازن بين المصالح المتعارضة وتحقيق الأهداف الوطنية.

وإذا تأملنا مليًا في أزمة سد النهضة، نجد أن الهدف الأساسي الذي تسعى مصر جاهدة لتحقيقه من خلال المفاوضات مع إثيوبيا هو التوصل إلى "اتفاق قانوني ملزم" يضمن حقوق مصر المائية في نهر النيل. ويمكن اعتبار هذا الهدف بمثابة الهدف الإستراتيجي الذي تسعى مصر لتحقيقه، ليس فقط في المفاوضات مع إثيوبيا، بل أيضًا في صياغة سياساتها المستقبلية مع دول حوض النيل.

فالمسألة تتجاوز مجرد سد النهضة وتعبئته الثانية الوشيكة، بل تتعداها إلى خطر بناء سدود أخرى في المستقبل قد تؤثر بشكل مباشر على حصة مصر من المياه. ففي حالة إتمام بناء سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا، فإن ذلك سيشجع دول حوض النيل الموقعة على مبادرة حوض النيل على بناء سدود مماثلة في المستقبل، مما يهدد الأمن المائي لمصر.

تُعتبر جيبوتي موقعًا استراتيجيًا في منطقة القرن الأفريقي، حيث يمر عبرها حوالي 80% من تجارة إثيوبيا. وتضم جيبوتي قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية وإيطالية وإسبانية وصينية ويابانية وسعودية، الأمر الذي يحد من قدرة القوات البحرية المصرية على تهديد إثيوبيا التي لا تمتلك سواحل بحرية.

إن الخيار العسكري ضد سد النهضة الإثيوبي يواجه تحديات جمة، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو المجتمعي. وقد سعت مصر خلال الفترة الماضية إلى تعزيز تواجدها في دول مثل جيبوتي وإريتريا والصومال، وهي الدول التي تحد إثيوبيا من الشمال والشرق.

إلا أن مصر لم تتمكن حتى الآن من إنشاء قاعدة عسكرية دائمة أو نشر قوات عسكرية في هذه المنطقة. وعلى الرغم من مشاركتها في تحالف "عاصفة الحزم" بقيادة السعودية في اليمن، إلا أن مشاركتها لا تزال محدودة وغير فعالة، وتقتصر على استخدام القواعد العسكرية السعودية.

كما أن انتشار القواعد العسكرية الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي يجعل تنفيذ عملية عسكرية شرق إثيوبيا أمرًا بالغ التعقيد، حيث يوجد ما يقرب من 19 قاعدة عسكرية تابعة لـ 16 دولة، بالإضافة إلى 4 قواعد عسكرية أخرى من المحتمل أن تنشئها تركيا وروسيا والسعودية قريبًا.

وتكتسب جيبوتي أهمية خاصة في منطقة القرن الأفريقي، حيث يمر عبرها حوالي 80% من تجارة إثيوبيا. وتستضيف جيبوتي قواعد عسكرية لدول كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والصين واليابان والسعودية، مما يقلل من فاعلية القوات البحرية المصرية في تهديد إثيوبيا التي لا تطل على أي سواحل. في المقابل، تتميز المناطق الحدودية الإثيوبية في الشمال والغرب بتضاريسها الوعرة، مما يجعل تنفيذ عملية إنزال عسكري أو عملية برية أمرًا معقدًا من الناحية اللوجستية، وهو ما يجعل السودان خيارًا أكثر جاذبية لمصر.

السودان.. نقطة ارتكاز حيوية

يشهد السودان وضعًا داخليًا بالغ التعقيد في ظل المرحلة الانتقالية الحالية، حيث تتصارع فيه قوى وأطراف متعددة. وتتمثل الأطراف الرئيسية في القوات المسلحة السودانية بقيادة رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" نائب رئيس المجلس السيادي، و"التيار المدني" الممثل بقوى الحرية والتغيير، بالإضافة إلى "التيار الإسلامي" و"الجماعات المسلحة المتمردة" المتواجدة في المناطق الهامشية، مثل جيش تحرير السودان.

إن هذا التنافر بين الأطراف المختلفة يجعل المشهد الداخلي السوداني معقدًا للغاية، ويصعب معه التوصل إلى قرار موحد يحظى بموافقة جميع الأطراف. فلكل طرف رؤيته الخاصة لإدارة المرحلة الانتقالية، بالإضافة إلى مرجعيته الأيديولوجية وانتماءاته القبلية والعرقية التي تحمل في طياتها قدرًا لا يستهان به من العداوات. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن لكل طرف علاقاته الخارجية التي يديرها بما يخدم أهدافه السياسية الداخلية ويحد من نفوذ الأطراف الأخرى.

وخلاصة القول أن السودان يشهد صراعًا على السلطة وتغيرات متسارعة تتطلب الاستعداد لأي تحولات داخلية. وسيسعى كل طرف إلى استغلال الأحداث بما يحقق له مكاسب شعبية داخلية تضمن له الاستمرار في السلطة وإزاحة الأطراف الأخرى. وعندما يزور مدير المخابرات العامة المصرية عباس كامل السودان، فإنه يحرص على مقابلة جميع الأطراف، وهو ما يعكس أحد التحديات التي تواجه مصر في حال قررت توجيه ضربة للسد. وعلى الرغم من أن العلاقات بين النظام المصري ووزارة الدفاع السودانية تعتبر الأفضل مقارنة بالأطراف الأخرى، إلا أنه يجب على مصر أن تحافظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف. بالإضافة إلى ذلك، تتمتع إثيوبيا بعلاقات جيدة مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، مما قد يدفعها إلى الضغط عليها لتبني مواقف معادية لمصر أو الوقوف على الحياد. وقد يتسبب ضرب السد خلال فترة التعبئة الثانية في إغراق العديد من المدن والقرى السودانية، خاصة تلك التي تقع بالقرب من الحدود مع إثيوبيا، بالإضافة إلى احتمال تأثر بعض السدود السودانية. وهذا ما يجعل خيار توجيه ضربة عسكرية قرارًا يضع الإدارة السودانية في موقف حرج وضعيف، مما قد يدفعها إلى إعادة تقييم حساباتها، بل وقد يدفعها إلى تبني مواقف معادية ضد مصر إذا لم يحدث تنسيق جيد معها.

وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته مصر مؤخرًا في تطوير العلاقات مع السودان وإقامة تدريبات عسكرية مشتركة تحت مسمى "حماة النيل"، والتي تحمل رسالة واضحة لإثيوبيا بأن استخدام القوة العسكرية أمر ممكن، إلا أنه بالنظر إلى منظومة اتخاذ القرار في المؤسسات المصرية، نجد أن مصر لم تتخذ خطوات حاسمة، مثل تفويض مجلس النواب بإرسال قوات عسكرية إلى الخارج أو إعطاء الضوء الأخضر للجيش لاستخدام القوة العسكرية ضد إثيوبيا. كما لم نسمع عن انعقاد معلن لمجلسي "الدفاع الوطني" و"الأمن القومي"، كما حدث في الحالة الليبية التي بدأت بالتفويض وحشد القوات المصرية على الحدود الغربية وإجراء اجتماعات موسعة مع عدة قبائل ليبية من الشرق وحشد الإقليم وبعض الأطراف الدولية ضد تركيا، وهو ما ساهم بلا شك في وقف التصعيد العسكري ودفع الأطراف الدولية إلى الضغط في سبيل تفادي تطور الصراع وتحوله إلى مواجهة عسكرية واسعة.

وقد تزامنت جميع هذه الخطوات مع تصريحات الرئيس السيسي حول "الخط الأحمر"، في حين لم نشهد خطوات جادة مماثلة فيما يتعلق بتصريحه عن "الخط الأحمر" في نهر النيل، حيث أكد السيسي أن المساس بالخط الأحمر سيؤثر على استقرار المنطقة. وقد يرجع ذلك إلى وجود ضغوط دولية.

إن إجراء مقارنات عسكرية بين الجيشين المصري والإثيوبي هو أمر مضلل يمكن استخدامه في مواقع التواصل الاجتماعي لإلهاء بعض فئات الجماهير، إلا أن قرار الحرب هو قرار معقد للغاية، وقد يتسبب في مشاكل لمصر على المستويين القصير والمتوسط في بناء علاقات جيدة مع الدول الأفريقية، وخاصة دول حوض النيل.

ولعل الخطوة التي اتخذتها مصر ببناء سد "جيوليوس نيريري" لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهر "روفيجي" في تنزانيا بقدرة 2115 ميغاوات، والذي يقوم تحالف شركتي "المقاولون العرب" و"السويدي إلكتريك" ببنائه بتكلفة تقدر بنحو 2.9 مليار دولار، وكذلك سد "واو" في جنوب السودان، تعتبر سياسة جيدة لم يتم استغلالها بشكل كامل على الصعيد الدبلوماسي مع المنظمات الدولية المختلفة، وخاصة الاتحاد الأفريقي. فالأفضل لمصر هو الانخراط في بناء السدود في دول حوض النيل لضمان عدم تأثير ذلك سلبًا على حصتها المائية، من خلال التحكم في الجوانب الفنية والتشغيلية للسدود.

وعلى الرغم من محاولات آبي أحمد إظهار أن الشعب الإثيوبي يقف خلفه ويدعمه، إلا أن هناك صراعات عرقية واسعة النطاق، كان آخرها تمرد منطقة التيغراي في شمال إثيوبيا، حيث تم أسر الآلاف من جنود الجيش الإثيوبي مؤخرًا. وهذا ينذر بتوسع نطاق التمرد وامتداده، وقد يدفع جماعات وعرقيات أخرى إلى التمرد ضد السلطة الفدرالية، وهو ما قد تستغله مصر عسكريًا. وتجدر الإشارة إلى أن إثيوبيا تتكون من 80 عرقية مختلفة، بما في ذلك 10 عرقيات رئيسية.

ويمكن تلخيص التحديات التي تواجه مصر في النقاط التالية:

  • الموقع الجغرافي لإثيوبيا البعيد عن مصر، والتضاريس الجغرافية الوعرة.
  • الأوضاع الداخلية السودانية المعقدة والمتعددة الأطراف، مما يجعل من الصعب التوصل إلى قرار موحد، بالإضافة إلى العلاقات التي بنتها إثيوبيا مع الأطراف المدنية والجماعات المسلحة المتمردة، مما قد يدفعها إلى الوقوف على الحياد، وقد تمانع من استخدام أراضيها أو قواعد عسكرية لضرب السد.
  • احتمال فرض عقوبات دولية على مصر، خاصة بعد جلسة مجلس الأمن.
  • تطور العلاقات الإثيوبية مع جيرانها بشكل إيجابي، مما يحد من فرص مصر في ممارسة ضغوط عليها.
  • الانتشار الواسع للقواعد العسكرية الأجنبية في منطقة القرن الأفريقي.
  • عدم وجود قواعد عسكرية مصرية بالقرب من إثيوبيا.
  • التداعيات السلبية التي ستنعكس على علاقات مصر مع دول حوض النيل وأفريقيا.

وبناءً على المعطيات الحالية، يُرجح أن مصر لن تقدم على ضرب سد النهضة خلال فترة التعبئة الثانية. ومع ذلك، فإن حجم التداعيات السلبية التي سيخلفها سد النهضة على مصر اقتصاديًا واجتماعيًا قد يدفع النظام إلى شن عمل عسكري محدود ضد السد لحماية حقوق البلاد المائية، دون الدخول في حرب شاملة وواسعة النطاق. ويهدف هذا العمل العسكري المحدود إلى إجبار إثيوبيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات تحت رعاية دولية. فأزمة سد النهضة ليست مجرد مشكلة مؤقتة، بل هي أزمة مستمرة ستتصاعد حدتها في المستقبل. ويتجلى التخبط في التعامل مع هذه الأزمة في وسائل الإعلام الموالية للنظام، ولكن يمكن أيضًا فهم الخطوة التي اتخذتها مصر والسودان في مجلس الأمن على أنها المحاولة الأخيرة في المسار السلمي، وقد يعقبها تصعيد عسكري.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة